ظهور الفتن
إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
أما بعد :
فحياكم الله جميعا أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلا، وأسأل الله الكريم – جل وعلا – الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفي r في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه ..
ونحن الليلة إن شاء الله – تعالى – على موعد مع العلامات الصغرى التي وقعت ولا زالت، ومن الجائز أن يتكرر وقوعها قبل أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه العلامات التي سأشرع في الحديث عنها الليلة إن شاء الله تعالى، وقد يطول حديثنا في هذا القسم من العلامات الصغرى ، إذ إنني سأتعرض في حديثي عن الفتن والملاحم، التي أخبر عنها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى r والتي لا يعرفها كثير من أبناء الأمة الآن.
أول هذه العلامات التي وقعت ولا زالت وستكرر، أول هذه العلامات كما أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى r. ظهور الفتن هذه أول علامة من العلامات الصغرى التي أخبر النبي r عن وقوعها ، فوقعت ولما تنقض بعد، ولا زلنا نرى من هذه الفتن في كل يوم أنواعاً وأشكالا، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه على كل شيء قدير.
قال ابن منظور في ((لسان العرب)): الفتن جمع فتنة، الفتن جمع فتنة وهي الابتلاء والامتحان والاختبار ، ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم انطلقت على كل مكروه، أو آيل إلى مكروه كالإثم والكفر والقتل والتحريق وغير ذلك من الأمور المكروهة هذا هو التأصيل اللغوي لمعنى كلمة الفتن .
وقد أخبر النبي r أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة، التي يلتبس فيها الحق بالباطل فتزلزل هذه الفتن الإيمان في القلوب، حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، كلما ظهرت فتنة من الفتن قال المؤمن: هذه مهلكتي، هذه الفتنة مهلكتي، ثم تنكشف فيظهر غير هذه الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف فتظهر فتنة جارية أخرى، وهكذا لا تزال الفتن تظهر إلى قيام الساعة كما أخبر الصادق r.
ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي r قال: ((بادروا بالأعمال)) ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم)) أي: تقدموا بالأعمال الصالحة بين يدي الفتن التي ستكون كقطع الليل المظلم ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً)) ((يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا))(1).
ها نحن الآن نرى مصداق كلام النبي r، فكم من أناس يبيعون دينهم، بعرض من الدنيا حقير، من أجل كرسي في مجلس الشعب، أو كرسي في مجلس شورى، أو كرسي في منصب من المناصب، أو وظيفة من الوظائف ، ربما لا يتورع الرجل أن يكذب، وأن ينافق وأن يخادع، وأن يماليء ، وأن ينافق بل وأن ينفق كل ما يملك، للوصول لهذه الغاية فإذا ما وصل إلى الغاية التي أراد تنكر لجل وعوده إن لم أقل : لكل وعوده التي وعد الناس بها .
فالناخب يكذب على ناخبيه ، المرشح يكذب على ناخبيه ، والحاكم يكذب على محكوميه، والعالم – إلا من رحم ربي – قد يزل فْي الكذب فيزور الفتاوى العرجاء ، لذوي السلطان ، وهكذا – ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
ولذا حذر النبي r من فتنة الدنيا كما في الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أنه r قال : (( والله ما الفقر أخشى عليكم والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم )) ([1]).
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه وابن ماجه كذا في السنن والحاكم في المستدرك ، وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي والألباني من حديث أبي موسى الأشعري أن الحبيب النبي r قال: ((إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً القاعد فيها)) – أي : في هذه الفتن – ((خير من القائم ، القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دُخِل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم))([2]) – أي : الذي قُتل.
وفي الحديث الذي رواه البخاري من حديث أم سلمة زوج النبي r رضوان الله عليها قالت : استيقظ رسول الله r ليلة فزعاً – في ليلة أم سلمة استيقظ النبي ليلة من لياليها فزعاً وهو يقول : (( سبحان الله ! سبحان الله ! ماذا أنزل الله من الخزائن ؟ وماذا أنزل الله من الفتن ؟ من يوقظ صواحب الحجيرات ؟ - أي من يوقظ زوجات النبي الطاهرات – من يوقظ صواحب الحجيرات ؟ لكي يصلين فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة))([3]).
استيقظ الني r وهو يقول: (( سبحان الله ماذا أنزل الله من الفتن)) رأى النبي r في هذه الليلة الفتن الكثيرة التي وصفها كأنها كقطع الليل الأسود ، المظلم لذا فهو يأمر أو يريد أن يوقظ نساءه – رضوان الله عليهن– ليصلين لله – جل وعلا – ثم قال: ((رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) .
وذكر الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – أقوالاً كثيرة في تفسير هذه الكلمة الأخيرة ((رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة )) فقال (( رب كاسية في الدنيا وهي عارية في الآخرة )) أي تلبس لباساً ضيقاً أي تلبس ثياباً شفافة، تظهر هذه الثياب عورتها، إما بضيقها وإما بشفافيتها هذه يظهر الله – جل وعلا – عورتها في الآخرة، جزاءً وفاقاً لإظهارها لعورتها في الدنيا.
وأنتم تعلمون الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة انه r قال: ((صنفان من أمتي من أهل النار )) – أرجو أن تنتبه المسلمات إلى هذا الحديث – يقول النبي r : (( صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما بعد )) وهذه أيضا من معجزات النبي r الخالدة ومن علامات الساعة كما سأبين إن شاء الله – تعالى .
((صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما بعد : رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)) وأنتم ترون الآن السياط التي تصنع من أذيال البقر وأذناب البقر ! ليلهب بها الظالمون والطغاة ظهور كثير من الناس من المظلومين والمؤمنين في السجون، هنا وهنالك ((رجال معهم سياط كأذناب البقر ، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها – أي وإن ريح الجنة – ليوجد من مسيرة كذا وكذا ))([4])
فالنبي r يقول: ((رب كاسية في الدنيا بالنعم وهي عارية عن شكر المنعم – تبارك وتعالى.
وهناك من يقول : رُب كاسية في الدنيا بالثياب لغناها ، ولكنها عارية من الثياب يوم القيامة، لتجردها في الدنيا من العمل الصالح ، الذي تكسي بفضله عند الله في الآخرة.
إذن يقول النبي – عليه الصلاة والسلام: ((سبحان الله ! سبحان الله ! ماذا أنزل الله من الخزائن ؟ وماذا أنزل الله من الفتن ؟ من يوقظ صواحب الحجيرات ؟ - أي من يوقظ زوجات النبي الطاهرات – من يوقظ صواحب الحجيرات ؟ لكي يصلين)) ثم قال (( رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة )) نسأل الله أن يستر نساءنا في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك ومولاه .
وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما قال – تدبر هذا الحديث – نادى منادي رسول الله r : الصلاة جامعة، الصلاة جامعة – وإذا نادى المنادي بهذا النداء ، يعلم أصحاب النبي r إن أمراً قد وقع وأن النبي r يريد أن يخبر بشيء قد تمن ، أو بتشريع قد نزل فنادى المنادي: الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة.
يقول عبد الله بن عمرو : فاجتمعنا لرسول الله r فقال – بأبي هو وأمي: ((إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم)) تدبر كلام النبي r ((إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها)) فخير القرون قرن النبي r ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
يقول – عليه الصلاة والسلام: ((وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء ، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها ، وتجيء الفتنة وتجيء الفتنة فيرقق بعضها بعضا)) ([5]).
يا إلهي !! تعبير نبوي في غاية البلاغة، والله كأن النبي r يجسد فتن هذا الواقع المعصر – ((فيرقق بعضها بعضا)) ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنه قد تقع الفتنة العظيمة التى تخلع القلوب وتصيب المؤمن بالذهول، فسرعان ما تقع فتنة أخرى أعصف، فتنسي الفتنة الثانية الفتنة الأولى، فيرقق بعضها بعضا، فينظر المسلم إلى الفتنة الجديدة، إلى هولها وفظاعتها ، وبشاعتها ، فيرى أن الفتنة الأولى ، التى سبقت ما هي إلا بسيطة، ورقيقة إلى جوار الفتنة الجديدة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تدبر كلام النبي r الذي يقول: ((وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء الفتنة وتجيء الفتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه)) أي: هذه مهلكتي هذه مهلكتي اسمع ((فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليهم )).
يقول الله – جل وعلا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران/102] .
أي في ظل هذه الفتن يجب عليك أن تجدد الإيمان أن تجدد الإيمان ، فإن الإيمان يخلق فإن الإيمان يضعف كما في الحديث الذي رواه الطبراني في ((معجمه الكبير)) والحاكم في ((المستدرك)) من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه الألباني أن النبي r قال : (( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب – أي كما يبلى الثوب- فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ))([6]).